فيصل الزامل
كم مرة يقرأ المرء كتاب الله، في اليوم، والشهر والسنة؟ لو قارنت ذلك بما يخصصه أكثرنا لقراءة الصحف بشكل يومي وبما يشبه الالتزام، منذ أول خيوط الفجر وبشكل شبه يومي طوال العام، لتبيّن لنا رجحان غير عادل لصالح هموم الدنيا، رجحان على المصدر الرئيسي لشفاء الصدور (من جعل الهم هما واحدا كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدنيا هلك).
الهاتف النقال وشاشته الضئيلة التي لا تكاد أعيننا تغفل عنها، فلا بد بين الفينة والأخرى من نظرة سريعة لقراءة رسالة على تلك الشاشة، وإذا رن الهاتف كانت المسارعة الى اجابته أو استجلاء خبره، هل نجد نفس سرعة الاستجابة حينما نسمع (يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)؟!
لقد تأملت في الحضارة الفرعونية - على سبيل المثال - وما تركته من عمارة ضخمة وأحجار مرصوصة غير أنها لم تحمل الى الناس قيما مجتمعية ولا تراثا فكريا أو تشريعيا تستفيد منه البشرية، رغم أن حضارات أخرى تزامنت معها قد ورّثت البشرية شيئا كثيرا، ولست أسوق هذا المثل للتقليل من شأن تلك الحقبة، بقدر ما هو وسيلة لتسليط ضوء أكبر على قيمة التراث الاسلامي، وفي مقدمته القرآن الكريم.
انه تراث يمكن للأمم أن تستخدمه وأن تستفيد منه، فهو يعايش الناس في الكبير والصغير من شؤون حياتهم، ويقدم لهم في كل منعطف لوحة ارشادية، فإذا مالت النفس مثلا الى الانسحاب من الدنيا والعزلة للعبادة برزت لوحة «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» و«خيركم من طال عمره وحسن عمله»، وإذا برزت نزعة التسلط من زوج تجاه زوجته، قالت له لوحة ارشادية اخرى «ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم»، وإذا أراد امرؤ أن يبطش بشخص نكاية في آخر، من أقاربه أو فصيلته التي تؤويه برزت لوحة (ولا تزر وازرة وزر أخرى)... إلخ. إنه تراث غني يخاطب الحاكم والمحكوم، والمغالي والمفرّط والأعراق المتدافعة فيهدّئ من غلواء ذلك التدافع ويخفف من جموحه (الكيّس من دان نفسه..) و(ليس الشديد بالصرَعة..) و(والكاظمين الغيظ).
هذه المصاحبة اليومية في كل حركة وسكنة وبين ثنيات خلجات النفوس هي ثروة انسانية كبيرة جدا، وأروع من ذلك هي بلاغة التعبير، انها عبارات قصيرة وبليغة لا يصعب على عامة الناس فهم المراد منها وكيفية العمل بها، عبارات ليس فيها غموض المعنى ولا ابهام التعبير، ما يؤدي الى هبوط هادئ لتلك الارشادات تتنزّل على القلوب بطمأنينة وسلاسة فتتقبلها النفوس المتعبة وتتشرّبها الأرواح المرهقة، كما تتشرب الأرض الجافة حبات المطر، لتبعث فيها الحياة من جديد.
اقرأ (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)، لقد كان شبه ميت، إما لإحباط واكتئاب، أو شتات رأي جعل له في كل يوم وجهة غير التي سبقت - ظلمات ليس بخارج منها - فإذا به يتحول الى شخص آخر ينثر ماء الورد في دروب البشر، ويسهل لهم مسيرة الحياة.
لقد جاء شهر القرآن ليمنحنا فرصة جديدة لتدريب تلك الروح التي ترهلت، ويزيل عن نفوسنا تلك الشحوم التي تراكمت، وينزع ضغائن قد حاصرتنا في كهف «الأنا» الموحش، انه من أسرع الشهور انقضاء، لكثافة مواد الدورة التدريبية فيه وتتابعها، ما يجعل اغتنام كل لحظة من هذا الشهر هو انتصارا يحققه كل منا، وزادا يتزود به المرء لشهور مقبلة من مسيرة الحياة المتعبة، وقد خاب وخسر من مرت عليه هذه الأيام السريعة - جدا - ولم يحصد منها مخزونا كافيا للأيام والشهور المقبلة.
تقبل الله منا ومنكم صيام هذا الشهر وقيامه، وقسم لنا جميعا فيه أبواب بر وتقوى جديدة مقبولة عنده.. آمين.