فيصل الزامل
استوقفتني هذه الأسئلة، كيف استطاع مؤسس المملكة العربية السعودية التعامل مع التركيبة القبلية؟
هذه البلاد الممتدة شمالا وشرقا وغربا بين وديان الجزيرة العربية وشعابها، كيف انتظم عقدها، والتأم شملها حول مفهوم الدولة في تلك البيئة القبلية الصاخبة؟
كيف استطاع الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - أن يوجه الحمية القبلية كي تصب حرارتها وطاقتها في جسم الدولة، وتضخ فيها طاقات بشرية شابة زادت من قوة الدولة الجديدة، بدلا من أن تشتت تركيزها على النحو الذي عانت منه دول أخرى؟ انها تجربة مميزة، تقدمت فيها راية الدولة على أي اعتبار آخر، واتضح كيانها للناس فانتقلوا من صحاريهم الى قرى جديدة وهجر – بالفتح – أقيمت قرب مراعيهم القديمة المتناثرة بين كثبان الصحراء، وصارت القبائل تحتشد شيئا فشيئا «للدولة لا عليها» عندما رأت أنها قد وفرت أسباب العيش الرغيد من تعليم وطبابة، وأهم من ذلك أمن لم يستتب إلا مع ثبات أركان الدولة، وهو شيء عانت القبائل الكثير من غيابه، فكانت الصغيرة منها تتضافر وتشمر - ولهذا سميت بالظفير وشمر- عن سواعدها لردع شهوة القتل والسلب والنهب التي كانت متفشية الى أن بسطت الدولة الجديدة سلطتها.
نعم، جاء الملك عبدالعزيز الى هذه البلاد بمفهوم جديد لا تهيمن فيه سلطة العشيرة والطائفة كما في لبنان وغيرها على سلطان الدولة، كانت البداية بمؤتمر العقير في 2 ديسمبر 1922 حينما أحضر الوكيل السياسي البريطاني بيرسي كوكس معه أمير قبيلة عنزة فهد بيك «بن هذال» اعتقادا منه أن ذلك سيلجم طموح بن سعود لقيادة البلاد الوليدة حديثا، وحينما جاء دور الملك عبدالعزيز في الكلام أوضح للحضور أنه لا شأن لابن هذال في تخطيط حدود الدولة الجديدة، ثم وجه كلاما واضحا ومباشرا له فقال: «وانت يا فهد لي كلام معاك بعدين» وكان ذلك كافيا للفصل بين الرابطة القبلية الاجتماعية والنظام السياسي والاداري للدولة، وقد استمر الرجل على هذه الطريقة في اعادة تسمية رؤساء المدن فاستبدل مسمى «أمير مدينة كذا» بمحافظ المدينة، فلقب الأمير ليس مسموحا بتداوله خارج أسرة الحكم وذلك للحد من تشعب مراكز القوة السياسية والادارية في الدولة الجديدة.
على المستوى الأمني لا تتساهل الدولة في توظيف الصلة القبلية لإضعاف سلطان الدولة، العكس هو الصحيح، فكثيرا ما يكلف بالقبض على مجرم هارب ضابط من أفراد قبيلته ترافقه قوة لاحضار المتهم، وهذه الأيام نتابع كيف شجعت المملكة الأسر التي يكون من بين أبنائها متورط في أعمال إرهابية على تسليمه بنفسها من خلال إقناع الأسرة له، فيحظى بفرصة جيدة للتحقيق والمحاكمة التي تأخذ في الاعتبار تلك المبادرة، ولو رجعنا الى سياسة القائد المؤسس الملك عبدالعزيز لوجدناه قد حرص على المصاهرة بين رموز الدولة وسائر القبائل، وكان هو في المقدمة، ما أدى الى توثيق الصلات الاجتماعية بين الناس في داخل منظومة الحكم.
هذه التجربة الناجحة يقابلها فشل حدث فيما سمي بثورة ظفار في عمان في نهاية الستينيات حيث لاحظ الثوار أن بعض قادتهم يتشدد في تطبيق النظام الحزبي، ثم يتساهل فجأة إذا كان المخالف من أفراد قبيلته ما أدى الى تراجع الروابط الحزبية لصالح القبلية فتفسخت الثورة، مع أسباب أخرى تتعلق بالمواجهة العسكرية الحاسمة، وفي الكويت هناك أيضا تجربة أخرى فاشلة أصبحت معها المبادئ الديموقراطية الجميلة غطاء لممارسات قبلية تزحف شيئا فشيئا على سلطان الدولة، وبدلا من المعالجة يجري تقنين هذا الوضع بالمحاصصة تارة، وتنظيمه عبر الترخيص بالأحزاب تارة أخرى، والتي ستحمل أيضا أسماء جميلة لواقع آخر تكون فيه الدولة مثل ريشة صغيرة في يوم عاصف.
كلمة أخيرة:
كان بين أسد وغطفان وطي حلف، ثم اجتمعت الأولى مع الثانية على طي فأزاحوها عن أرضها – المراعي – فلما جاء الإسلام ترك الناس ذلك، وبعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجعوا إليه، قال قائلهم «ما نعرف حدودا لطي ولأن نتبع نبيا من أحلافنا أحب الينا من أن نتبع نبيا من قريش، وقد مات محمد وبقي طليحه، فاتبعوه»،... ولولا موقف أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) الحازم لرجعت العرب الى منطق القوة الذي ألفوه أكثر من مفهوم الدولة.